الأربعاء، 18 أغسطس 2010

أحــــلام ... عانـــس !



أحلام فتاة كأي فتاة عاشت حياتها في بيئة محافظة أنهت تعليمها العام ثم الجامعي

لتقف في صف طويل من المتقدمات لسلك العاطلات

مضت السنون وهاهي الآن على أولى عتبات الثلاثين من العمر !

كانت كمثيلاتها من الجامعيات تنتظر فرج الوظيفة ليكون لها بمثابة المفتاح السحري لحياة زوجية منتظرة

فوظيفة الزوجة باتت شرطاً وحيداً للراغبين في الزواج !

لما لا وأختيها المتزوجتين حديثاً كانتا بمثابة الدليل الراسخ لصدق تنبؤاتها ، فمع صدور قرار تعيين كل منهما كمُعلمة في إحدى القرى النائية ، كان صراع العرسان على أشُدّه ، الكل يرغب في استثمار الفرصة الذهبية!

أحلام فتاة مثقفة تعلم جيداً من خلال ديون والدها وبطالة أخوتها أنّ الظروف الاقتصادية باتت تُهدّد النسيج الاجتماعي ، وتُبشّر بظهور طبقة اجتماعية تعلو خط الفقر بدرجة ، بعد أن كانت في السابق ما تسمى الطبقة المتوسطة !

تعلم جيداً أنّها على بُعد أشهر قليلة من سِنّ العنوسة وهو سِنّ الثلاثين أو يزيد قليلاً !

كغيرها من نسبة الــ 24 % من العاطلات ، تبدأ أحلام يومها بمتابعة الصحف والمواقع الإلكترونية على رجاء أن تسمع خبر نفيها في إحدى القرى البعيدة !

هاهو الصيف على الأبواب والإستعدادت لحفلات زفاف شباب القرية التي تنتمي إليها على أوجّها

كأي فتاة تطمح للزواج ، تنتقي أحلام أجمل الثياب وتبالغ في زينتها قبل الذهاب لحفلات الأعراس على أمل أن تُلفت نظر إحدى الحاضرات لتقتنصها عروساً لابنها

قبل أن تخرج من منزلها تقف أمام المرآة لوضع اللمسات الأخيرة ، تنظر لنفسها بعيون الحسرة على ما آلت إليه الأحوال في مجتمعنا

فلا الجمال الذي تنعم به ولا السمعة الطيبة التي تتمتع بها كافيتين لكي يطرق بابها فارس أحلام

لم يعُد للشعر الغجرّي مُعجبين ، ولم تعُد للعينين النجلاوتين متيّمين ، ولا للعود الريّان مُغرمين

كل هذه الأشياء باتت من الماضي ، فالجمال الحقيقي في نظر البعض هو المال !

كانت تتردّد على الأعراس ليس عشقاً بالجو الفرائحي ، بل تتوسّل نظرات الأخريات كمن تنشد الستر لنفسها

كانت النظرات تتبعها هي والكثيرات معها ، ولكنّها ليست نظرات المعجبات ، بل نظرات الشامتات ممّن لا همّ لهنّ إلاّ الكلام في الأعراض ، كانت تلاحقها الاتهامات ، وتجري خلفها الشائعات ، وكأنّ نصيبها رهن إشارتها !

انتهى الصيف وتوقّفت معه الأفراح والتي لم تجني من ورائها سوى الأحزان ، ليس اعتراضاً على القدر ، فهي تؤمن بفطرتها وتديّنها أن نصيبها بيد الله عز وجل

ولكنّها نظرات العطف والشفقة والازدراء التي لا ترحم ، وشائعات النسوة وغيبتهنّ - هي من أصابها في مقتل !

أغلقت على نفسها الأبواب في محاولة للتكيف مع الوحدة التي ربما تكون مصيرها

زواج أو خطبة إحدى قريباتها أو صديقاتها بات من الأخبار الموجعة لأحلام ، ليس حسداً لهنّ ، ولكنّها مناسبات تُجدّد جراحها بعد أن تكون قريبة من نسيان آلامها !

مرت السنون وهاهي أحلام في منتصف الثلاثينات وقطار العنوسة يسير بلا توقف

باستثناء بعض المحطات التي تُحيي الأمل بداخلها ثم سُرعان ما تصعد القطار من جديد

لم تُعد أحلام ترغب في الوظيفة ، ولم يعُد طموحها الزواج ، بل كانت غريزة الأمومة تؤرّق مضجعها ، فعشقها لأطفال أخوتها لا يوازيه عشق ، وكلمة أُم أقصى ما تصبو إليه !

كان صراخ الأطفال يزيدها ألماً على ألم ، ولهوهم يصيبها همّاً على همّ ، وضحكاتهم تزيد دموعها أدمُع

كان لأحلام كبريــــاء صلب ، وعاطفة بلغت حدّ الاكتفاء ، ممّا يجبرها في لحظات الخلوة

أن تجهش في البكاء بعد كل زيارة لأخواتها المتزوجات

هذه تُريها أحدث هدايا زوجها ، وتلك تقرأ لها أخر رسائل الغزل المرسلة من زوجها

كم هي مسكينة أحلام

هاهو التعيين قد جاءها ، وهاهُم العرسان يطرقون الباب

أجهشت أحلام بالبكاء لا تدري أهو شعور الفرح ، أم هو حزن على والدها الذي تُوفي قبل أن يفرح بها

كفكفت دموعها ، ونظرت للمستقبل بشموخ وأنفة ، في انتظار موافقة أخيها على من ارتضته فارس أحلام

ما لبثت أن انهارت بعد علمها رفض أخيها لكل من تقدّم لها ، بداعي أنها مصدر دخلهم الوحيد !

استفاقت أحلام من صدمتها ، وأقسمت على أن تنتقم ولكن مِن مَن ؟

من أخيها العاطل ، الذي قام بعضلها ليستبيح راتبها ؟

أم من الدولة التي لم توفّر فرص عمل برواتب مجزية لأخيها وأسراب العاطلين ؟


السبت، 14 أغسطس 2010

مُطلّقات... خلف القضبان !


في مجتمعنا المحافظ نهتم كثيراً، بل يصل بنا الاهتمام حدود التّزمُّت المقيت - بماذا؟
نهتم بالمظاهر ، نهتم بالقشور ، نهتم بكلام الناس
أصبح العيب هو عميد المبادئ ، أصبح كلام الناس هو السلطة الخامسة
نحكم على الآخرين بكل تسرّع ، نعارض كل ما ينافي مبادئنا وتراثنا حتى وإن كان خطأ !
والمرأة في مجتمعنا هي أكثر من يدفع ضريبة ثقافة العيب
قضايا المرأة في مجتمعنا المحافظ هي قضايا شائكة ، بل أن التطرق لبعض تفاصيلها أو حتى الاقتراب من عناوينها العريضة ، بمثابة خط أحمر لا ينبغي تجاوزه !
سأكتفي هنا بطرح قضية قد لا يخلو منها بيت ، إنها قضية المرأة المُطلّقة
دونكم هذه النماذج :
امرأة مُطلّقة... ذنبها - ارتباطها بمن لا يخاف الله فيها !
امرأة مُطلّقة ... ذنبها - ارتباطها بزوج مستهتر لا يوجد في قاموسه معنى للمسؤولية !
امرأة مُطلّقة ... ذنبها - ارتباطها بشاب مسلوب الإرادة يتلقى الأوامر والتعليمات من خارج المنزل !
امرأة مُطلّقة ... ذنبها - أودعت زوجها كل أملاكها ليكافئها بالجحود والنكران ، ويهديها أجمل ضُرّة !
امرأة مُطلّقة ... ذنبها - رضوخها لسلطة ولي أمرها ، لتجد نفسها ممرضة لعريس في عمر جدها !
امرأة مُطلّقة... ذنبها - استسلامها لجبروت العادات ، ليكون عريسها الأقرب وليس الأمثل !
من يحمي هذه الفئة في مجتمعنا ؟
مجتمع مُتسلّط ، مجتمع قاسي ، مجتمع لا يرحم
ينظر للمُطلّقة على أنه كائن غير مُرحّب به في المجتمع !
تبكي المُطلّقة ولا تجد من يكفكف دموعها ، تصرخ ولا تجد مجيب ، تستغيث فلا تجد مغيث
تُجابه بسلسلة طويلة من الأزمات، بدايتها الأهل ونهايتها المجتمع
أهلها أول معارضي طلاقها وإن كانت على حق !

لا تجد من يقف معها في انتزاع حُريتها ، تضل لسنوات في عداد " المُعلّقات " !
ولشراء حُريتها من قوامة من يعتقد أنه رجل ، تخوض جولة مُطوّلة من المساومات
لتجد نفسها في نهاية المطاف مجبورة على الخُلع !
تحوم حولها الشبهات ، تكثر الأوامر والمنهيات ، تتّسع دائرة المحظورات
النظرات تُسلّط عليها ، والاتهامات تأتيها من كل جانب !
إنه العــــار في نظر المجتمع
والعــار بحق هو تلك النظرة العـــار !
وإزاء تلك النظرة القاصرة
تجد المُطلّقة نفسها في الغالب بين مطرقة عجوز مُعدّد ، وسندان شاب مغازل !
لماذا المُطلّقة هي الحلَقة الأضعف في المجتمع ؟
لماذا تُسلب حقوقها ولا تجد من يؤازرها ؟
لماذا تُثار حولها الشكوك ؟
لماذا تُحاط بها الظنون ؟
أين حقّها في حياة كريمة ؟
أين حقوقها الشرعية والقانونية ؟
أين حقّها في السكن والنفقة والحضانة ؟
أين حقّها في نظرة عادلة من المجتمع ؟
لماذا تُكبّل بالعيب وتُسلسل بأغلال "كلام الناس "؟
ولكي أكون عادلاً في طرحي لا بُد وأن أُشير إلى أكبر انجاز تحقّق للمُطلّقة وسط هذا السلطة الذكورية

قراراً جاء متأخراً لوزارة العدل ، يقضي باستلامها شهادة حُريتها من حضرة القاضي !
لتتحرّر أخيراً من سجن الزوجية ، وتدخل بكامل إرادتها سجن المجتمع الكبير !

الأحد، 8 أغسطس 2010

كلمات ... حبرها دمعي !


في زمانٍ مضى ، كانت بيوت الجيران بيتنا الكبير
في زمانٍ رحل، كانت الأبواب مُشرّعة للجميع
كانت القلوب بيضاء ، الحب هو قاسمها المشترك
كانت البراءة في التعابير، السُمو في التعامل، الصدق في الشعور - هي الديدن
كانت التاسعة صباحاً ساعة صخب تُقرع أجراسها في جميع المجالس
كانت رائحة القهوة تفوح في الأرجاء ، والجارات يحملن ترامس القهوة وخبزة الملال ، يدرن بها البيوت
كان الأطفال يمارسون اللهو على الأرصفة وفي الطرقات
كم بكينا على الكرة عندما تُغتال تحت العجلات !
أهـ على كلماتٍ كم عشقتها واندثرت
" أمي تسلم عليكم وتقول إذا ما بتروحون مكان بتجيكم "
" أمي تسلم عليكم وتقول عندكم طماطم "
" أمي تسلم عليكم وتقول اعطونا شوية هيل "
أهـ على تلك القدور التي تدور في الحي ، كم كنت سفيراً أميناً لحملها
أهـ على ليالي رمضان وكيف كنا نُعبّر عن فرحتنا بمقدمة بسلك الغسيل بعد أن نشعل به النار
أهـ على المسامير التي كنا نحفر لأجلها الإسفلت لنملأه بالكبريت ثم نستمتع بصوتها يُدوّي المكان
أهـ على بسطات البليلة وترامس الأيسكريم في ليالي رمضان
كنّا نسير بأقدام حافية ، وثياب مشقوقة
أهـ كم أتوق لليالي العيد ... زمــــان
كنّا نجتمع لأجل أن يشاهد كلٌ منّا ملابس عيد الأخر!
كانت رائحة الملابس والأحذية الجديدة بمثابة جرعة منشطة لمواصلة الحياة
كانت الحلاوة تتوسط المجالس يجاورها زجاجة عطر تتصل بها كرة ذهبية صغيرة طالما تصارعنا من أجل الفوز بها عندما ينتهي العطر!
ما أجمل صباح العيد عندما ننتشر جميعاً نطرق الأبواب ، نتسوّل الحلوى والريالات ، وشعارنا الموحد
"من العايدين" !
كانت جيوبنا ملأى بالحلوى ، نعود سريعاً لتفريغها في المنزل ، ثم نواصل الغارات
ليتنا نعود كما كنّا ... ليت الزمن توقف مع أخر ضحكاتنا البرئية
أهــ ... أهـ ... أهــ
أتوقّف هنا ففي القلب غصة ، وفي العين دمعة ، وفي الصدر حُرقة !

الثلاثاء، 3 أغسطس 2010

سِرّي ... وليس للنشر!


من إحدى قمم قرى جنوب الطائف –دلوعة الغيم–
والتي أجاد في وصفها الشاعر عندما قال :
لا هان من سمّاك دلوعة الغيم
قصة عشق مابين أرض وسحابة
وعلى ارتفاع يقارب الـــــ 2500 م عن سطح البحر جلست على شفا أحد مرتفعات جبال السراة ، كان الوقت ظهراً
وخيوط الشمس تتسلل من بين فجوات الغيوم الحالمة ، بينما الضباب يتسرب من بين ثنايا الجبال الشاهقة!
كان للسحب موعد في ذلك المكان، تدفعها الرياح من جانب، بينما الأشواق تدفعها من الجانب الأخر .
كنت أنظر للروابي الخضراء على جنبات الوادي وهي تلثم الضباب!
دقائق مضت ارتدت السماء خلالها رداءها الأبيض ، ما لبثت أن عانقتها سحابة رمادية قادمة من الشرق
رسمت على الأرض أجمل معاني العشق ، لتجسّد على الواقع أجمل أبيات
البدر
عشقـٍ جمع مـا بيـن قـ'ـَاع وغيمـة ... سيّلـ على صدر الثري دم'ـَع الآمـزانـ
مع تلك الأجواء الماطرة ، والمناظر الخلابة ، بادلت الأرض السماء العشق بالعشق، واكتست هي الأخرى الرداء الأبيض بعد أن احتضنت على صدرها حبات البرد!
كان المنظر أكبر من قدرتي على التأمل ، غبت عن الوعي حتى إشعار أخر ، وسرحت بخيالي إلى حيث لا أدري ، إنها أحلام اليقظة تأتيني في مثل هذه الأجواء الساحرة !
خلت نفسي أسير في إحدى شوارع العاصمة الرياض ، وسياط الشمس تجلدني من كل جانب ، فإذا بي صدفة وأثناء توقفي عند إحدى الإشارات الضوئية بمعالي رئيس مجلس الشورى يقف بجواري ، نظر إلي بابتسامة وحيّاني بيده ثم أنزل زجاج سيارته الأمامي لينبّهني إلى كفر سيارتي الأيمن الذي تمكّن منه النعاس !
شكرته على اهتمامه بشؤون المواطنين ، ثم طلبت منه مساعدتي لعدم وجود عفريته لديّ
أبدى موافقته ثم أردف مازحاً : انتم يا المواطنين
عفاريت !
أمر سائقه الشخصي أن يتكفل بشأن سيارتي ، ثم طلب مني الصعود إلى سيارته لحين انتهاء السائق من مهمته
بادرني بالقول : أنا قد شفتك قبل اليوم ، بس ما أدري فين ؟
أجبته على الفور : والله يا معالي الرئيس أنا اللي كل يوم اشوفك بالجرايد والتلفزيون ، لكن أنت ما ظنيت انك شفتني .
تبسّم كعادته ثم قال : انت تكتب في المنتديات، صح ؟
في تلك اللحظة ، بلغ مني الغرور مبلغه لإحساسي أنني أصبحت ضمن المشاهير ثم أجبته :

أطقطق على خفيف طال عمرك ، إلاً صدق كيف عرفت الله يحفظك ؟
قال : من اسمك المستعار على طبلون السيارة

كان يعلو الطبلون ملف أخضر علاقي مائل للصفرة بفعل حرارة الشمس
ضحكت كثيراً حتى بدت نواجذي ، ثم ربتُّ بيدي على كتفه قائلاً : الله يقطع سواليفكم في المجلس يا معالي الرئيس ، حتى هذي ما فاتت عليكم ؟
فعلاً المجلس ما يترك لا شاردة ولا واردة إلاً ويدري عنها .
بادلني الضحكات ثم أخرج من كيس بجواره علبة بيبسي بريال ونصف

– يبدو أنه كان يخطط لشربها على وجبة الغداء – وقال : اشرب يا ملف وبرّد على قلبك ، ترى مواضيعكم في المنتديات ما تخفى علينا ، عندنا لجان خاصة لدراستها ، مهمتها إيجاد الحلول العاجلة لمشاكل المواطنين !
نظرت إليه بتعجب ثم تجشأت تحت تأثير المشروب الغازي قائلاً : معقووووووولة!
أخذ طرف الشماغ ووضعه على أنفة ، ثم قال بصوت هادئ : نعم يا ملف كل شيء نعرفه بالمجلس
تصدق حتى حملاتكم بالمنتديات نأخذها بعين الاعتبار ، ثم مدّ يده إلى كيس يقبع في المقعدة الخلفية
ليريني بيجامة خضراء بشعار الوطن كانت بداخله ، ثم قال : هذه البيجامة يا ملف تجاوباً مني مع حملتكم الميمونة في المنتدى

" خلووه يلبس " !
اندهشت مما رأيت ، لم أتخيل أن صوتنا مسموعاً إلى هذا الحد!

ثم قلت : طيب وباقي الحملات طال عمرك ؟
حملة " أريد بيتاً لأبنائي قبل مماتي " ،
حملة " خلوها تصدي " ، حملة " أريد وظيفة "
تفاجأ بالسؤال ثم تنحنح قليلاً بعد أن شعر بالإحراج والتفت للسائق يسأله : بدّلت الكفر ؟
كان السائق حينها قد انتهى بالفعل من إنجاز مهمته
شكرته ودعوت له قبل أن أغادر سيارة معاليه ، على وعد قطعته معه بتكملة الحوار في موعد أخر
بعد أن طلب مني إعطاء السائق رقم هاتفي للاتصال بي لاحقاً.
انطلق سائقه بسرعة عالية شمالاً، بينما انعطفت بسيارتي جنوباً، غير مصدق أنني كنت مع معاليه!
وصلت منزلي وتناولت الكبسة - الوجبة الرسمية للمواطنين – ولم أخبر أحداً بخبر لقائي معاليه
بعد أن انتهيت من لعق أصابعي ، رفعت طاسة اللبن البقري إلى الأعلى ثم أملتها إلى فمي بزاوية 60 درجة
وشربت منها حتى عجزت أنفاسي عن التوقف الاضطراري أكثر من ذلك ، ما أن وضعت الطاسة على الأرض حتى انفجر أطفالي من الضحك وهم يشيرون إلى علامة الجودة التي ارتسمت على أطراف أنفي !
حمدت الله على نعمائه، حاولت أن أنهض ، ولكن هيهات !
لبثت في مكاني حتى اكتمال المرحلة الأولى من الهضم ، وتحت إغراء برودة المكيف في ظهاري الرياض الحارقة استسلمت للنوم معتمداً على مسند كان بجواري ، انطلقت بعد ذلك أسراب الذباب الموسمية في مهمة اقتسام الدهن العالق بين أصابعي !
كان شخيري بمثابة موسيقي حماسية لذلك السرب في معركته الحامية ، بدأت معه رحلة أخرى من الأحلام ولكنها في المنام هذه المرة ، وقبل أن أبدأ في بناء قصوري الحالمة ، رنّ جرس هاتفي المحمول فأفزعني وأسراب الذباب .
كان على الطرف الأخر صوت معالية : الأخ ملف ؟
أجبته بصوت ناعس ومتهدج : نعم
تأسف بلباقته المعهودة واعتذر عن إزعاجي ، وطلب لقائي لأمر هام حين استيقاظي
أغلق الهاتف وواصلت والذباب الرحلة من جديد .
استيقظت لصلاة العصر ، ثم ذهبت للقاء معاليه وكان الموعد إحدى المخططات الحديثة
شمال مدينة الرياض
رأيته يحمل بيده متراً لقياس أطوال إحدى القطع للتأكد من أطوالها ، كان يمسك المتر من أحد الأطراف بينما كنت أمسكه أنا من الطرف الأخر !
بعد أن سجلنا المساحات 30×30 سألني عن الموقع إن كان أعجبني أم لا ، أبديت له إعجابي ، ثم قال : اذهب غداً إلى القاضي فلان في كتابة العدل الأولي حتى يتم إفراغ القطعة باسمك ، انطلقنا من المكان بعد أثنيت على تفهّم معاليه لاحتياجي كمواطن ، بدأت بعد ذلك أحاديث المجاملات والتلميع ، حتى توقفنا عند وكالة الجفالي ثم طلب مني اختيار السيارة التي أرغب ، بعد أن ألح عليّ في الطلب ، لم أجد بداً من الموافقة ، ووقع اختياري على الطراز S300

طلب من الموظف تسجيل السيارة باسمي ، والذي بدوره طلب مني إمهاله يوماً واحداً لإنهاء الإجراءات حتى أتمكن من استلامها !
وقبل أن تغيب شمس ذلك النهار أخرج من جيبه الأيمن دفتر شيكات ثم أعطانيه

لكتابه رقم لا يقل بأي حال من الأحوال عن سبعة منازل!
كان إصراره أكبر من محاولات رفضي .
أذّن المؤذن لصلاة المغرب فدخلنا سوياً لأداء الصلاة ، وبعد أن انقضت الصلاة ، وانتهينا من السنة الراتبة
أخذني معاليه إلى ركن قصي في المسجد ، ثم قال :
اعلم يا رعاك الله أن الدنيا دار بلاء ،
وأن الآخرة دار جزاء
وأن المال يميل بقلب صاحبه ، وأن المال فتنة وقد أخبر بذلك النبي-صلى الله عليه وسلم-فيما صح عنه
"إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال"
ها أنا قد اختبرتك بحنكتي ودهائي وأعطيتك من المال ما يفوق أحلامك ، ما جعلك تنسى الأمر الذي طلبت لقائي من أجله !
كنت تريد نقاشي حول تلك الحملات التي يطلقها المواطنون بين الحين والأخر ، ولكنك فتنت بالمال وتناسيت مهمتك الرئيسية !
لما اللوم يا ملف على أعضاء المجلس ؟
إتهم على نفس النهج ! يتم تعيينهم وهم أصحاب دخل محدود يحملون العديد من الهموم والأفكار
يتم تحسين أوضاعهم وإغراءهم بالمزايا والبدلات قبل أن يضعوا أقدامهم على عتبات المجلس
كيف تريد من هؤلاء أن يشعروا بالمواطن ؟!
كيف تريد ممن يسكن في فيلا فاخرة ، و بدل سكن يبلغ مائة ألف ريال
أن يشعر بمن يسكن بيوت الصفيح ؟!
كيف تريد ممن يصل راتبه الشهري 23 ألف ريال بخلاف البدلات والمكافآت أن يشعر بموظف على بند الأجور لا يصل راتبه ألفي ريال ؟
كيف تريد ممن يحصل على مبلغ ثلاثمائة ألف ريال لكل دورة من دورات المجلس ، أن يشعر بحاجات العاطلين ؟
كيف تريد ممن يعالج وأفراد عائلته في المستشفى التخصصي للحالات البسيطة أن يشعر بمعاناة المواطنين مع مستشفيات وزارة الصحة ؟
أشفقت عليه ، شعرت بالمرارة والأسى بين طيات حديثه ، وطلبت منه التوقف قائلاً
كفاية طال عمرك
نظر إلىّ بعين الحسرة ، تنهد من الأعماق ، ثم أنشد هذين البيتين:
لا يعرف الشوق إلاّ من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيهـا
لا يسهر الليل إلاّ من به ألـمٌ ... لا تحرق النار إلا رجل واطيها

طال بنا الحديث ولم يقطعه علينا إلاّ المؤذن وهو ينادي لصلاة العشاء
وبعد أن أدينا الصلاة ، غادرت المسجد مصطحباً معاليه إلى سيارته ، وقبل أن أغلق خلفه الباب
قمت بإرجاع الشيك ، وطلبت منه إلغاء مبايعة المرسيدس وقطعة الأرض !
طلب مني إيصالي للمنزل ، ولكن رفضت ، أصررت على ركوب الليموزين ، أردت أن أعود لطبيعتي
أردت أن أعيش حُراً بقلمي ، حُراً بكرامتي
بعد أن عشت لسويعات عبداً للمال ، نسيت خلالها مبادئي التي طالما حاربت من أجلها
اخترت أن أكون حُراً رغم حاجتي ، أحمل همّ الفقراء والمعوزين ، أحمل همّ الموظفين والعاطلين ،
اخترت أن أكون صوتاً مسموعاً يتعدى صداه الأفاق ، لا أن أكون بوقاً كأبواق الفوفوزيلا يصم الأذان !
ودّعت معاليه ، ثم أشرت لسائق ليموزين من الجنسية البنغالية ، وقبل أن اسأله عن ثمن المشوار!
توقفت الأمطار الغزيرة في تلك البقعة من جبال السراة ، بعد أن انقشعت الغيوم الكثيفة أعلاها ، وعاد للسماء صفاءها من جديد ، أحسست بنسائم الهواء التي تعقب المطر تدغدغ أنفاسي ، وأصوات العصافير المنتشية تداعب سمعي ، انتبهت على رائحة الأرض عندما يودعها المطر ، التفت في كل الاتجاهات فإذا بي وحيداً على ربوة عالية ، ضحكت بصوت عال ، وقبل أن استجمع صداها من أرجاء المكان
اهتز هاتفي الجوال على نغمة sms فحواها الأخ ملف مع وافر التحية والتقدير
تم رفع الإيجار بمقدار ألفي ريال ، اعتباراً من السنة الجديدة والتي تبدأ مع شهر رمضان المبارك وكل عام وانتم بخير !

نـــــهــــ حلم ــــــــاية